فصل: الواقعيــــة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته **


الواقعيــــة

{‏ قل‏:‏ سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا‏؟‏‏}

والخاصية السادسة من خواص التصور الإسلامي هي ‏.‏‏.‏ الواقعية ‏.‏‏.‏ فهو تصور يتعامل مع الحقائق الموضوعية، ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي‏.‏ لا مع تصورات عقلية مجردة، ولا مع ‏"‏مثاليات‏"‏ لا مقابل لها في عالم الواقع، أو لا وجود لها في عالم الواقع‏.‏

ثم إن ‏"‏التصميم‏"‏ الذي يضعه للحياة البشرية يحمل طابع الواقعية كذلك، لأنه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية…

ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه‏.‏‏.‏

وسنحاول هنا شرح هذين المدلولين من مدلولات الواقعية، في التصور الإسلامي‏:‏

إنه يتعامل مع الحقائق الموضوعية‏.‏ ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي‏.‏‏.‏

يتعامل مع الحقيقة الإلهية، متمثلة في آثارها الإيجابية، وفاعليتها الواقعية … ويتعامل مع الحقيقة الكونية، متمثلة في مشاهدها المحسوسة، المؤثرة‏.‏ أو المتأثرة …

ويتعامل مع الحقيقة الإنسانية، متمثلة في الأناسّي كما هم في عالم الواقع‏.‏‏.‏ الإله الذي يتعامل معه هذا التصور هو ‏"‏الله‏"‏ المتفرد بالألوهية، وبكل خصائص الألوهية‏.‏ ولكن هذه الخصائص كلها من عالم الواقع، ذات أثر في عالم الواقع، يمكن إدراك آثارها الواقعية، ولا يضرب العقل البشري في التيه ليتمثلها على هواه، في سلسلة من القضايا المنطقية المجردة – على طريقة ‏"‏الميتا فيزيقا‏"‏ بصفة عامة –ولكنها تتمثل في آثاره –سبحانه- في هذا الكون‏.‏‏.‏ فالألوهية وخصائصها واقعية الأثر في هذا الكون‏.‏ والإدراك البشري يحال إلى هذه الآثار الواقعية، ليرى فيها خصائص الألوهية، ممثلة في الصنعة الإلهية‏:‏

‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏.‏ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تُظهرون‏.‏ يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون‏.‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏.‏ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏.‏ ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين‏.‏ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏.‏ ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً، وينزل من السماء ماء، فيحيي به الأرض بعد موتها، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏.‏ ومن آياته أن تقوم السماوات والأرض كل له قانتون‏.‏ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده – وهو أهون عليه- وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

‏(‏الروم‏:‏ 17-27‏)‏

‏{‏ إن الله فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي‏.‏‏.‏ ذلكم الله ‏.‏‏.‏ فأنى تؤفكون‏؟‏ فالق الإصباح، وجعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً ‏.‏‏.‏ ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، قد فصّلنا الآيات لقوم يعلمون‏.‏ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون‏.‏ وهو الذي أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضراً، نخرج منه حباً متراكباً، ومن النخل من طلعها قنوان دانية، وجنات من أعناب والزيتون والرمان، مشتبها وغير متشابه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏.‏ وجعلوا لله شركاء الجن –وخلقهم- وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون‏.‏ بديع السماوات والأرض، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة‏؟‏ وخلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم‏.‏‏.‏ ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل‏.‏ لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير‏}‏‏.‏

‏(‏الأنعام‏:‏ 95-103‏)‏

‏{‏قل‏:‏ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏.‏ الله خير أم ما يشركون‏؟‏‏.‏ أم من خلق السماوات والأرض، وأنزل لكم من السماء ماء، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏؟‏ أإله مع الله‏؟‏ بل هم قوم يعدلون‏.‏ أم من جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً‏؟‏ أإله مع الله‏؟‏ بل أكثرهم لا يعلمون‏.‏ أم من يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض‏؟‏ أإله مع الله‏؟‏ قليلاً ما تذكرون‏.‏ أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر، ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته‏؟‏ أإله مع الله‏؟‏ تعالى عما يشركون‏.‏ أم من يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزقكم من السماء والأرض‏؟‏ أإله مع الله‏؟‏ قل‏:‏ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏

‏(‏النمل‏:‏ 59-64‏)‏

‏{‏فاطر السماوات والأرض، وجعل لكم من أنفسكم أزواجاً، ومن الأنعام أزواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء‏.‏ وهو السميع البصير‏.‏ له مقاليد السماوات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم‏}‏‏.‏

‏(‏الشورى‏:‏ 11-12‏)‏

{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده‏}‏‏.‏

‏(‏فاطر‏:‏ 41‏)‏

وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع إله ‏"‏موجود‏"‏، يدل خلقه على وجوده، ‏"‏مريد‏"‏‏.‏ ‏"‏فعال لما يريد‏"‏ تدل حركة هذا الكون وما يجري فيه على إرادته وقدرته‏.‏

ومن ثم يفترق تصور الإله في الإسلام افتراقاً رئيسياً عنه في تصورات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين‏.‏ حيث تتعامل تصوراتهم مع إله ‏"‏مثالي‏"‏ يفرضون هم عليه ‏"‏مثالية‏"‏ من صنع عقولهم، ومن تصورات أحلامهم‏.‏ وهو إله لا إرادة له ولا عمل‏.‏ لأن هذا من مقتضى كماله أو مثاليته‏!‏ ثم يضطرهم هذا الافتراض إلى افتراض وسائط شتى بين الإله والخلائق، وإلى تصورات وثنية وأسطورية كالتي كانت سائدة في الوثنية الإغريقية‏:‏

‏"‏فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان‏:‏ طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة الأولية أو الهيولي “Hyle” والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي ‏.‏‏.‏ وبين ذلك كائنات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي‏.‏

‏"‏وهذه الكائنات المتوسطة، بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية‏.‏ وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة، ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان، ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة‏.‏ فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق، لتوسطها بين الإله القادر والهيولي العاجزة‏.‏‏.‏ فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين ‏!‏‏!‏‏!‏ ‏"‏‏.‏

‏"‏وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع، لأنها تتغير وتتلون، وتتراءى للحس على أشكال وأوضاع لا تصمد على حال‏"‏‏.‏

‏"‏ وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره‏.‏ وفي العقل المجرد تستقر الموجودات ‏"‏الصحائح‏"‏ أو المثل كما سميت في الكتب العربية‏.‏ وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة‏.‏ لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد ‏!‏‏!‏‏!‏ ‏"‏

‏"‏ وهذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يتلبس بالمادة أو الهيولي‏.‏ فكل شجرة مثلاً فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية‏.‏ فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها‏؟‏ هي في عقل الله منذ القدم‏.‏ وكل تلبس بالمادة من خصائص الشجرية، فهو محاكاة لذلك المثل الأعلى‏"‏‏.‏

‏"‏والله عند أرسطو هو العلة الأولى، أو المحرك الأول‏.‏

‏"‏ فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولابد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه‏.‏ وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محرك لا يتحرك، لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية‏.‏

‏"‏وهذا المحرك الذي لا يتحرك لابد أن يكون سرمداً، لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملاً منزهاً عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنياً بوجوده عن كل موجود‏.‏

‏"‏ وهذا المحرك سابق للعالم في وجوده، سبق العلة لا سبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل، ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني‏.‏ لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه‏.‏ أو كما قال‏:‏ ‏"‏لا يُخلَق العالم في زمان‏"‏‏.‏

‏"‏وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارب اليقين‏.‏ إلا أنه يقرر في كتاب ‏"‏الجدل‏"‏ أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان‏.‏

‏"‏وإجمال براهينه في هذه القضية‏:‏ أن إحداث العالم يستلزم تغييراً في إرادة الله‏.‏ والله منزه عن الغير‏.‏ فهو إذا أحدث العالم، فإنما يحدثه ليبقى –جل جلاله- كما كان‏.‏ أو يحدثه لما هو أفضل‏.‏ أو يحدثه لما هو مفضول‏.‏ وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله‏.‏ فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان، فذلك عبث‏.‏ والله منزه عن العبث‏.‏ وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان، فلا محل للزيادة على كماله‏.‏ وإذا أحدثه ليصبح مفضولاً، فذلك نقص يتنزه عنه الكمال‏!‏

‏"‏وإذا كانت إرادة قديمة لا تتغير، فوجود العالم ينبغي أن يكون قديماً كإرادة الله‏.‏ لأن إرادة الله هي علة وجود العالم‏.‏ وليست العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب غيره‏.‏

‏"‏فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئاً ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسيلة، أو لعارض طارئ، أو لعدول عن الإرادة‏.‏ وكل ذلك ممتنع في حق الله‏!‏

‏"‏وقد أفرط أرسطو في هذا القياس، حتى قال‏:‏ إن الله –جل وعلا- لا يعلم الموجودات، لأنها أقل من أن يعلمها‏.‏ وإنما يعقل الله أفضل المعقولات‏.‏ وليس أفضل من ذاته، فهو يعقل ذاته، وهو العاقل والعقل والمعقول‏.‏ وذلك أفضل ما يكون ‏!‏‏!‏‏!‏ ‏"‏‏.‏

‏"‏وقد بلغ أفلوطين غاية المدى في تنزيه الله‏.‏ فالله عنده فوق الأشباه‏.‏ وفوق الصفات، ولا يمكن الإخبار عنه بمحمول يطابق ذلك الموضوع‏.‏

‏"‏بل هو عنده فوق الوجود ‏!‏

‏"‏وليس معنى ذلك أنه غير موجود، أو أنه عدم – لأن العدم دون الوجود وليس فوق الوجود – وإنما معناه أن حقيقة وجوده لا تقاس إلى الجواهر الموجودة، ولا تدخل معها في جنس واحد، ولا تعريف واحد‏.‏ فهو ‏"‏أحد‏"‏ بغير نظير في وجوده، ولا في صفاته، ولا في كل منسوب إليه‏.‏

‏"‏ويغلو أفلوطين أحياناً فيقول‏:‏ إن الله لا يشعر بذاته‏.‏ لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها‏.‏ ولكنه لصفات وجوده يتنزه عن ذلك التمييز، ويتنزه عن ذلك الشعور‏!‏‏!‏‏!‏‏"‏‏.‏

وهكذا نجد في هذه التصورات، وهي أعلى ما وصل إليه الفكر البشري في تصور كمال الله وتنزيهه – إلهاً من ‏"‏صنع‏"‏ الفكر البشري‏!‏ إلهاً لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع‏!‏ لأن صفاته وخصائصه منتزعة من فروض عقلية مجردة، لا من النظر في واقع الوجود، وما يوحى به من صفات الخالق لهذا الوجود‏.‏ ولا من الوحي الذي يصف الله –سبحانه- كما هو في الحقيقة‏!‏

ومن ثم تشتط هذه التصورات في ‏"‏مثالية‏"‏ لا رصيد لها من الواقع‏.‏ لأنها لم تؤخذ من الواقع‏.‏ إنما أخذت من التجريد العقلي‏.‏ والفروض العقلية‏.‏ وتنتهي هذه المثالية إلى نقص وعجز في تصور الكمال الإلهي – كما نرى من المقتبسات السابقة – في الوقت الذي تريد أن تبالغ في تقرير هذا الكمال‏.‏

وحين تقاس هذه المحاولات إلى التصور الإسلامي، يتبين معنى ‏"‏الواقعية‏"‏ التي تعنيها‏.‏ فالحقيقة الإلهية في التصور الإسلامي، حقيقة فاعلة في هذا الوجود، وتلتمس خصائصها وصفاتها في آثارها الواقعية في هذا الوجود‏.‏ وهذا ما يفصله القرآن الكريم وهو يصف الحقيقة الإلهية للناس، وهو يعرّفهم بربهم تعريفهاً يسيراً عميقاً واضحاً، وهو يستشهد بواقع الكون وواقع الناس، في منطق فطري واقعي جميل‏.‏

بمثل هذه الواقعية يواجه التصور الإسلامي الكون‏.‏‏.‏ فهو يتعامل مع هذا الكون الواقعي الممثل في أجرام وأبعاد‏.‏ وأشكال وأوضاع، وحركات وآثار وقوى وطاقات‏.‏ لا مع الكون الذي هو ‏"‏فكرة‏"‏ مجردة عن الشكل والقالب‏.‏ أو الكون الذي هو ‏"‏إرادة‏"‏ ممثلة في شكل وقالب‏.‏ ولا مع الكون الذي هو ‏"‏هيولي‏"‏ ومادة أولية غير مشكلة، أو الكون الذي هو ‏"‏صورة‏"‏ أو ‏"‏مثال‏"‏ في العقل المطلق‏!‏ أو الكون الذي هو ‏"‏الطبيعة‏"‏ الخالقة‏!‏ التي تطبع الحقائق في العقل البشري‏!‏ ولا مع الكون الذي هو عدم أو شبيه بالعدم‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه الأسماء، التي ليس لها مدلول ‏"‏واقعي‏"‏ يتعامل معه ‏"‏الإنسان‏"‏‏.‏

الكون هو هذا الخلق ذو الوجود الخارجي الذي يدركه الإنسان، ويوجه إليه قلبه وعقله في القرآن‏.‏ هو هذه السماوات والأرض‏.‏ هذه النجوم والكواكب‏.‏‏.‏ هذه الكائنات الميتة والحية‏.‏ والظواهر الكونية هي هذه الحياة وهذا الموت‏.‏ وهذا الليل وهذا النهار‏.‏ وهذا النور وهذا الظلام‏.‏ وهذا المطر والبرق والرعد‏.‏‏.‏ وهذا الظل وهذا الحرور‏.‏ وهذه الأحوال والأطوار ذات الوجود الحقيقي، وذات الآثار الحقيقية‏.‏

وحين يوجه الإسلام الإدراك الإنساني إلى هذا الكون ‏.‏‏.‏ كدليل على وجود خالقه ووحدانيته، وقدرته وإرادته، وهيمنته وتدبيره، وعلمه وتقديره… فإنه يوجهه إلى هذا الكون ذي الكينونة الواقعية، والآثار الواقعية ‏.‏‏.‏ ولا يوجهه إلى كون هو ‏"‏فكرة‏"‏ مضمرة، أو ‏"‏إرادة‏"‏ منفّذة، ولا يوجهه إلى كون هو صورة في عقل الإله، أو ‏"‏هيولي‏"‏ تعارض تلك الصورة، أو تشوهها عندما تتلبس بها‏!‏ ولا يوجهه إلى كون هو من صنع العقل، أو إلى كون هو صانع العقل‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه التصورات البحتة التي تتعامل مع نفسها، ولا تتعامل مع الواقع الكوني إطلاقاً‏!‏

الكون في التصور الإسلامي هو هذه الخلائق التي أبدعها الله، وقال لها‏:‏ كوني فكانت، والتي نسقها الله بحيث لا تتعارض ولا تتصادم، والتي هي خاضعة لله، عابدة له، مسخرة لأمره، مؤدية لما أراده منها، ولما سخرها له، على أحسن وجه من الأداء‏:‏

{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور‏.‏ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏‏.‏

‏(‏الأنعام‏:‏ 1‏)‏

{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏.‏ ذلكم الله ربكم فاعبدوه، أفلا تذكرون‏؟‏‏}‏ … ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب‏.‏ ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون‏.‏ إن في اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون‏}‏‏.‏

‏(‏يونس‏:‏ 3-6‏)‏

{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى‏.‏ يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏.‏ وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يُغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏.‏ وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏

‏(‏الرعد‏:‏ 2-4‏)‏

{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين‏}‏ … ‏{‏والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون‏.‏ وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين‏.‏ وغن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم‏.‏ وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه، وما أنتم له بخازنين‏.‏ وإنا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون‏}‏‏.‏

‏(‏الحجر‏:‏ 16-23‏)‏

{‏والله جعل لكم مما خلق ظلالاً، وجعل لكم من الجبال أكنانا‏}‏‏.‏

‏(‏النحل‏:‏ 81‏)‏

{‏أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي‏.‏ أفلا يؤمنون‏؟‏ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجاً سبلا لعلهم يهتدون‏.‏ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً، وهم عن آياتها معرضون‏.‏ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، كل في فلك يسبحون‏}‏‏.‏

‏(‏الأنبياء‏:‏ 30-33‏)‏

‏{‏وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج‏.‏ ذلك بأن الله هو الحق‏.‏ وأنه يحي الموتى، وأنه على كل شيء قدير‏.‏ وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور‏}‏‏.‏

‏(‏الحج‏:‏ 5-7‏)‏

{‏ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، والفلك تجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه‏؟‏ إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏.‏ وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم‏.‏ إن الإنسان لكفور‏}‏‏.‏

‏(‏الحج‏:‏ 65-66‏)‏

‏{‏ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق، وما كنا عن الخلق غافلين، وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكنّاه في الأرض، وإنا على ذهاب به لقادرون‏.‏ فأنشأنا لكم به جنات ونخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة، ومنها تأكلون‏}‏‏.‏

‏(‏المؤمنون‏:‏ 17-19‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود‏.‏ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور‏}‏‏.‏

‏(‏فاطر‏:‏ 27-28‏)‏

{‏أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها، وما لها من فروج، والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب‏.‏ ونزلنا من السماء ماء مباركاً، فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد‏.‏ رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً‏.‏ كذلك الخروج‏}‏‏.‏

‏(‏ق‏:‏ 6-11‏)‏

{‏تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير‏.‏ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور‏.‏ الذي خلق سبع سماوات طباقاً، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت‏.‏ فارجع البصر‏.‏ هل ترى من فطور‏.‏ ثم ارجع البصر كرتين، ينقلب إليك البصر خاسئاً، وهو حسير، ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏‏.‏

‏(‏الملك‏:‏ 1-5‏)‏

‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل‏؟‏ ولو شاء لجعله ساكناً، ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً‏.‏ ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً‏.‏ وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً‏.‏ وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهوراً‏.‏ لنحيي به بلدة ميتاً، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسىّ كثيراً‏}‏‏.‏

‏(‏الفرقان‏:‏ 45-49‏)‏

وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع كون له وجود واقعي‏.‏ يختلف بطبيعة الحال عن ‏"‏وجود الله‏"‏ سبحانه‏.‏ ولكنه وجود له خصائص مدركه من واقع هذا العالم، وليست منتزعة من تصورات ذهنية مجردة، ولا من دعاوى يمليها الهوى من غير دليل‏!‏

وتتضح واقعية هذا الكون في التصور الإسلامي، حين نستعرض –على سبيل المثال- تصور ‏"‏البراهمية‏"‏‏.‏ واعتبارها أن الوجود الواحد هو وجود ‏"‏براهما‏"‏ – الإله الأعظم – أما هذا الكون المادي فهو ‏"‏عدم محض يقابل ذلك ‏"‏الوجود‏"‏ ‏.‏‏.‏ غير أن ‏"‏الوجود‏"‏ حلّ في ‏"‏العدم‏"‏ ومن ثم وجد الشر في العالم‏.‏ لأن الوجود خير محض وكما محض‏.‏ أما العدم، فهو شر محض أو نقص محض‏.‏ وخطة الإنسان للتخلص من الشر –وهو كل ما له جسم- تنحصر من هذا الجسم، لكي يعود ‏"‏الوجود‏"‏ الذي فيه إلى وصفه المطلق‏.‏ وينطلق من إسار هذا ‏"‏العدم‏"‏ الناقص الشرير الذي حل فيه‏!‏‏.‏

كذلك تتضح واقعية الكون في التصور الإسلامي، حين نراجع تصور أفلاطون لهذا الوجود المادي‏.‏ وأنه مجرد ظل لعالم المثل‏.‏ فالشجرة التي تراها هي ظل لمثال الشجرة المكنون في العقل المطلق‏!‏ وهو ناقص لا يمثل كمال المثال الذي هو في عقل الإله و ‏"‏النفس الكلية‏"‏ – التي هي من عالم المثل- هي الصلة بين الأشياء ‏"‏المثالية‏"‏ كما هي في العقل المطلق، والأشياء الصورية ظلال المثل –غير الحقيقية- التي هي في عالم المادة، الذي نلمسه ونراه‏!‏

وأفلوطين – كما تقدم- يرى أن هناك ‏"‏الأحد‏"‏ وهو الإله‏.‏ وقد صدر عنه ‏"‏العقل‏"‏ وعن العقل صدرت الروح أو ‏"‏النفس الكلية‏"‏ وهذه أوجدت العالم المحسوس نيابة عن العقل‏!‏ – وهذا العالم المحسوس أصله المادة‏.‏ وهي أحط الموجودات‏.‏ وهي ‏"‏ظلام‏"‏ ‏!‏ وهي شر وفساد‏!‏

… الخ … الخ‏.‏

وحين توازن هذه التصورات المنتزعة من لا شيء‏!‏ إلا من خيالات العقل البشري وتأويلاته، دون تلبس بواقعيات هذا الكون وحقائقه الموضوعية ‏.‏‏.‏ حين توازن هذه التصورات بالتصور الإسلامي، كما تمثله تلك النصوص القرآنية التي سردناها –وراءها في القرآن كثير- يتبين معنى ‏"‏الواقعية‏"‏ الذي نعنيه في التصور الإسلامي‏.‏

كذلك يتعامل التصور الإسلامي مع الإنسان ‏.‏‏.‏ مع هذا الإنسان الواقعي، الممثل في هؤلاء البشر كما هم، بحقيقتهم الموجودة‏!‏‏.‏ مع هذا الإنسان ذي التركيب الخاص، والكينونة الخاصة‏.‏ الإنسان من لحم ودم وأعصاب‏.‏ وعقل ونفس وروح، الإنسان ذي النوازع والأشواق، والرغائب والضرورات‏.‏ الإنسان الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏.‏ ويحيا ويموت‏.‏ ويبدأ وينتهي‏.‏ ويؤثر ويتأثر‏.‏ ويحب ويكره‏.‏ ويرجو ويخاف‏.‏ ويطمع ويياس‏.‏ ويعلو وينحط‏.‏ ويؤمن ويكفر‏.‏ ويهتدي ويضل‏.‏ ويعمر الأرض أو يفسد فيها ويقتل الحرث والنسل‏.‏ إلى أخر سمات الإنسان الواقعي، وصفاته المميزة‏:‏

{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏.‏ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام‏.‏ إن الله كان عليكم رقيباً‏}‏‏.‏

‏(‏النساء‏:‏ 1‏)‏

{‏ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير‏}‏‏.‏

‏(‏الحجرات‏:‏ 13‏)‏

{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏‏.‏

‏(‏يس‏:‏ 36‏)‏

{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏.‏ ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً‏.‏ ثم أنشأناه خلقاً آخر‏.‏ فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏‏.‏

‏(‏المؤمنون‏:‏ 12-14‏)‏

{‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً‏.‏ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً‏.‏ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً‏}‏‏.‏

‏(‏الإنسان‏:‏ 1-3‏)‏

{‏قتل الإنسان‏!‏ ما أكفره‏!‏ من أي شيء خلقه‏؟‏ من نطفة خلقه فقدره‏.‏ ثم السبيل يسره‏.‏ ثم أماته فأقبره‏.‏ ثم إذا شاء أنشره‏}‏‏.‏

‏(‏عبس‏:‏ 17-22‏)‏

{‏وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً‏.‏ فلما كشفنا عنه ضره مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه‏.‏ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

‏(‏يونس‏:‏ 12‏)‏

{‏وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذاً لهم مكر في آياتنا‏.‏ قل الله أسرع مكراً‏.‏ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون‏}‏‏.‏

‏(‏يونس‏:‏ 21‏)‏

‏{‏ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة، ثم نزعناها، إنه ليئوس كفور‏.‏ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته، ليقولن‏:‏ ذهب السيئات عني‏.‏ إنه لفرح فخور‏.‏ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير‏}‏‏.‏

‏(‏هود‏:‏ 9-11‏)‏

{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام‏.‏ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد‏}‏ … ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد‏}‏‏.‏

‏(‏البقرة‏:‏ 204-207‏)‏

وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع ‏"‏الإنسان‏"‏ الذي هو كائن واقعين له خصائصه، وله مشخصاته وله فاعليته وله انفعاله، وله تأثره وله تأثيراته‏.‏‏.‏ لا مع معنى مجرد، أو فرض من الفروض لا رصيد له من الواقع‏.‏

إنه لا يتعامل مع ‏"‏الإنسانية‏"‏ كمعنى مجرد، ولا يتخذها إلهاً يتوجه إليه بالعبادة بينما هذا المعنى المجرد لا وجود له، أو لا ضابط لهن في عالم الواقع‏.‏‏.‏ ولا يتعامل مع ‏"‏العقل المطلق‏"‏‏.‏ ككائن مشخص، لأن العقل المطلق ليست له كينونة واقعية‏.‏ إنما هناك العقل المفرد، في كل فرد على حدة‏.‏ ومن ثم فليس هو الذي يخلق الكون أو يخلق الروح‏.‏

إنه يختلف عن ‏"‏المثالية العقلية‏"‏ التي تتعامل مع مقولات عقلية بحتة، لا صلة لها بالموجودات المؤثرة والمتأثرة في الكون والحياة‏.‏

وفي الوقت نفسه يفترق عن ‏"‏الوضعية الحسية‏"‏ التي تتخذ من الطبيعة إلهاً يخلق العقل‏!‏ ويخلق المدركات العقلية‏!‏ فالله –في التصور الإسلامي- هو خالق ‏"‏الطبيعة‏"‏ وخالق ‏"‏الإنسان‏"‏‏!‏ والعقل الإنساني يدرك نواميس الطبيعة، ويتعلم قوانينها، ويتعرف إلى طاقاتها ومدخراتها، ويؤثر فيها تأثيراً إيجابياً، ويتأثر بها تأثراً حسياً وعقلياً ‏.‏‏.‏ في توازن واعتدال‏.‏

وكأنما كان الإسلام –بل هو كان- ينظر من وراء القرون إلى هذه اللوثات التي ستصيب البشرية، على أيدي ‏"‏الفلاسفة‏"‏ و ‏"‏المفكرين‏"‏ المحدثين ‏.‏‏.‏ من ‏"‏مثالية عقلية‏"‏ إلى ‏"‏وضعية حسية‏"‏ إلى ‏"‏مادية جدلية‏"‏ … فصاغ تصوره في هذا التوازن العجيب‏.‏ الشامل المتكامل‏.‏ ليستقر منه الضمير البشري على قرار ثابت‏.‏ وليعود إليه الإدراك الفصل‏.‏ ويجد عنده الهدى والنور في متاهات العقول والأهواء‏؟‏

وصدق الله العظيم‏:‏

{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏‏.‏

‏(‏الإسراء‏:‏ 9‏)‏

{‏ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وعمل صالحاً، وقال‏:‏ إنني من المسلمين‏}‏‏.‏

‏(‏فصلت‏:‏ 33‏)‏

فأما المدلول الثاني للواقعية في التصور الإسلامي، فيتعلق بطبيعة المنهج الذي يقدمه للحياة البشرية‏.‏ وواقعية هذا المنهج، مع طبيعة الإنسان، وطبيعة الظروف التي تحيط بحياته في الكون، ومدى طاقاته الواقعية الحقيقية‏:‏

إن ‏"‏الإنسان‏"‏ –في التصور الإسلامي- هو هذا ‏"‏الإنسان‏"‏ الذي نعهده‏.‏ هذا الإنسان بقوته وضعفه‏.‏ بنوازعه وأشواقه‏.‏ بلحمه ودمه وأعصابه، بجسمه وعقله وروحه … إنه ليس الإنسان كما يريده خيال جامح، أو كما يتمناه حلم سابح مع قضايا ذهنية من قضايا المنطق الشكلي‏!‏ كما أنه ليس الإنسان الذي يضعه المنطق الوضعي في أسفل سافلين، ويجعله مخلوقاً من مخلوقات هذه ‏"‏المادة‏"‏ الصماء‏!‏ أو من مخلوقات ‏"‏الاقتصاد‏"‏‏!‏

إنه الإنسان الذي خلقه الله ليستخلفه في هذه الأرض، فيقوم فيها بالخلافة الحركية الإيجابية، التي تنشئ وتبدع في عالم المادة ما يتم به قدر الله في الأرض والأحياء والناس‏.‏

إنه الإنسان ‏"‏الواقعي‏"‏ كما أسلفنا‏.‏ ومن ثم فإن المنهج الذي يرسمه له الإسلام منهج واقعي كذلك‏.‏ منهج حركي‏.‏ تنطبق حدوده على حدود طاقات الإنسان، وتكوينه وواقعية لحمه ودمه وأعصابه، وجسمه وعقله وروحه‏.‏ الممتزجة في ذلك الكيان‏.‏

والمنهج الإسلامي للحياة –على كل رفعته ونظافته وربانيته ومثاليته- هو في الوقت ذاته منهج لهذا الإنسان- في حدود طاقاته الواقعية- ونظام لحياة هذا الكائن البشري الذي يعيش على هذه الأرض‏.‏ ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج ويتناسل ويحب ويكره، ويرجو ويخاف، ويزاول كل خصائص الإنسان الواقعي كما خلقه الله‏.‏

وهو يأخذ في اعتباره فطرة هذا الإنسان، وطاقاته واستعداداته، وفضائله ورذائله وقوته وضعفه ‏.‏‏.‏ فلا يسوء ظنه بهذا الكائن، ولا يحتقر دوره في الأرض، ولا يهدر قيمته في صورة ما من صور حياته‏.‏ كما أنه لا يرفع هذا الإنسان إلى مقام الألوهية، ولا يخلع عليه شيئاً من خصائصها‏.‏ كذلك لا يتصوره ملكاً نورانياً شفيفاً لا يتلبس بمقتضيات التكوين المادي، ومن ثم لا يستقذر دوافع فطرته ومقتضيات هذا التكوين الفطري‏.‏

ومع اعتبار المنهج الإسلامي لإنسانية الإنسان من جميع الوجوه فهو وحده الذي يملك أن يصل به إلى أرفع مستوى، وأكمل وضع، يبلغ إليه الإنسان، في أي زمان وفي أي مكان‏.‏

وليس هنا مكان تفصيل هذه الحقيقة‏.‏ فسيجئ موضعها في القسم الثاني من هذا البحث عند الكلام عن حقيقة الإنسان‏.‏‏.‏ فنكتفي هنا بهذا القدر‏.‏ لنخلص منه إلى بعض النصوص، التي تصور واقعية المنهج الإسلامي، وانطباقها على واقعية الكائن الإنساني، مع الهتاف له دائماً بالرفعة والطهارة، وبلوغ أقصى كماله المقدر له في حدود فطرته‏.‏

{‏وقالوا‏:‏ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏؟‏ لولا أنزل إليه ملك، فيكون معه نذيراً‏!‏ أو يلقى إليه كنز‏!‏ أو تكون له جنة يأكل منها‏؟‏ وقال الظالمون‏:‏ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏.‏ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا، فلا يستطيعون سبيلا‏.‏ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك‏:‏ جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل لك قصوراً‏}‏‏.‏

‏(‏الفرقان‏:‏ 7-10‏)‏

{‏وقالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏.‏ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب‏.‏ فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏.‏ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏.‏ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏.‏ أو يكون لك بيت من زخرف‏.‏ أو ترقى في السماء‏.‏ ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏!‏ قل‏:‏ سبحان ربي‏!‏ هل كنت إلا بشراً رسولاً‏؟‏‏}‏‏.‏

‏(‏الإسراء‏:‏ 90-93‏)‏

{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏‏.‏

‏(‏البقرة‏:‏ 286‏)‏

{‏ويسألونك عن المحيض‏.‏ قل‏:‏ هو أذى‏.‏ فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله‏.‏ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏.‏ نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين‏}‏‏.‏

‏(‏البقرة‏:‏ 222-223‏)‏

‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم‏.‏ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكمن والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏‏.‏

‏(‏البقرة‏:‏ 216‏)‏

{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة‏.‏ والخيل المسومة والأنعام والحرث‏.‏ ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب‏.‏ قل‏:‏ أؤنبئكم بخير من ذلكم‏؟‏ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله، والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏

‏(‏آل عمران‏:‏ 14-15‏)‏

{‏وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين‏.‏ الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين‏.‏ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم – ومن يغفر الذنوب إلا الله – ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون‏:‏ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم، وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ونعم أجر العاملين‏}‏‏.‏

‏(‏آل عمران‏:‏ 133-136‏)‏

‏{‏الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم‏.‏ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله‏.‏ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا‏.‏ إن الله كان علياً كبيراً‏}‏‏.‏

‏(‏النساء‏:‏ 34‏)‏

‏{‏فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏:‏ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون‏:‏ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيراً‏.‏ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت‏.‏ فقتلوا أولياء الشيطان‏.‏ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏‏.‏

‏(‏النساء‏:‏ 74-76‏)‏

{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا‏.‏ اعدلوا هو أقرب للتقوى‏.‏ واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون‏}‏‏.‏

‏(‏المائدة‏:‏ 8‏)‏

{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين‏.‏ قل‏:‏ من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏.‏ قل‏:‏ هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون‏.‏ قل‏:‏ إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏‏.‏

‏(‏الأعراف‏:‏ 31-33‏)‏

وكلما مضينا هكذا مع النصوص القرآنية التي تقرر تكاليف الحياة الإسلامية، وتضع حدود المنهج الإسلامي للحياة، لاحظنا ‏"‏الواقعية‏"‏ في هذا المنهج وانطباقها على واقعية الفطرة الإنسانية، وحدود طاقاتها الموهوبة لها، وحدود الاستعدادات المهيأة للعمل والنشاط‏.‏ بحيث لا تكبت طاقة واحدة، ولا تكف عن العمل، وبحيث لا تكلف كذلك أكبر من وسعها، ولا تكلف ما ليس من طبعها وفطرتها‏.‏

وتتجلى هذه الواقعية بوضوح حين ننظر مثلاً فيما تتطلبه العقيدة البراهمية من معتنقيها وحين نراها تطلب إليهم الكف عن كل ما ينمي أو يصون تكوينهم الجسدي، وذلك كي تسارع أرواحهم في الانطلاق من قيد الجسد، والخلاص من هذا ‏"‏العدم‏"‏ المظلم الناقص الشرير، والعودة إلى ‏"‏الوجود‏"‏ الكامل الخير المنير‏!‏

كذلك حين ننظر إلى التصورات الكنسية التي اصطبغت بها النصرانية، ونراها تعامل التكوين الإنساني – المؤلف من المادة والروح- في حالة ازدواج مركب كامل –كما لو كان غلظة منكرة‏!‏ يجب التخلص منها، والتطلع إلى هذا الخلاص في انفصال عالم الروح عن عالم الجسد، وفي استقذار كل ما هو جسدي على الإطلاق‏.‏ فضلاً على تكليف الإنسان ما لا يطاق‏.‏‏.‏ على سبيل المثال، معاشرة زوجة لا يطيق عشرتها‏.‏ أو الانفصال عنها –دون طلاق- مع عدم معاشرة زوجة أخرى بعدها‏!‏ ‏.‏‏.‏ وغير هذا كثير في التصورات الكنسية، التي تصادم فطرة الإنسان وتكوينه الواقعي‏!‏

إن الإسلام دين للواقع‏.‏ دين للحياة‏.‏ دين للحركة‏.‏ دين للعمل والنتاج والنماء دين تطابق تكاليفه للإنسان فطرة هذا الإنسان‏.‏ بحيث تعمل جميع الطاقات الإنسانية عملها الذي خلقت من أجله‏.‏ وفي الوقت ذاته يبلغ الإنسان أقصى كماله الإنساني المقدر له، عن طريق العمل والحركة، وتلبية الطاقات والأشواق، لا كبتها أو كفها عن العمل، ولا إهدار قيمتها واستقذار دوافعها‏.‏‏.‏

ومن ثم تتحقق صفة ‏"‏الواقعية‏"‏ للمنهج الإسلامي الموضوع للحياة البشرية، تحققها للتصور الإسلامي ذاته عن الله والكون والحياة والإنسان‏.‏ ويتطابق التصور الاعتقادي والنهج العملي في هذا الدين تطابقاً لا تفاوت فيه‏.‏

ومن ثم ينطلق الإنسان بكل طاقاته، يعمّر في هذه الأرض ويغيرن وينمي في موجوداتها ويطوّر، ويبدع في عالم المادة ما شاء الله له أن يبدع‏.‏ لا يقف في وجه حاجز من التصور الاعتقادين ولا من المنهج العملي‏.‏ فكلاهما ‏"‏واقعي‏"‏ مطابق لواقعية الكينونة الإنسانية وللظروف الحقيقية المحيطة بها في هذا الكون من حولها‏.‏ وكلاهما صادر من الجهة التي صدر عنها الإنسان، والتي زودته بطاقاته واستعداداته‏.‏

ومن ثم يتسنى للإنسان، المؤمن بهذه العقيدة، المدرك لحقيقة التصور الإسلامي، وللمنهج الإسلامي المنبثق منه، أن ينشئ من الآثار الواقعية في هذه الأرض، وأن يحقق من الإبداع المادي فيها، وفاق ما ينشئه من الصلاح الأخلاقي، وكفاء ما يحققه من الرفعة والتطهر‏.‏ في تناسق وتوازن وشمول وإيجابية وواقعية‏:‏

{‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏.‏ لا تبديل لخلق الله‏.‏ ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏‏.‏

‏(‏الروم‏:‏ 30‏)‏